مناظرة هاريس وترامب- مستقبل إسرائيل بين الأمن والتحديات

المؤلف: أحمد الحيلة10.11.2025
مناظرة هاريس وترامب- مستقبل إسرائيل بين الأمن والتحديات

ألقى ملف الحرب الدائرة في غزة بظلاله الكثيفة على المناظرة التلفزيونية الحاسمة بين المرشحين المتنافسين على الفوز بمقعد الرئاسة في البيت الأبيض، كامالا هاريس ودونالد ترامب. وقد اتّفق كلا المرشحين على التأكيد بشكل قاطع على الأهمية القصوى لأمن إسرائيل وحقها الأصيل في الدفاع عن نفسها. وفي هذا السياق، أشارت هاريس إلى الضرورة الحتمية لأن يكون هذا الدفاع مسؤولًا، مع إيلاء اهتمام خاص لحماية المدنيين الأبرياء، في تلميح واضح إلى استيائها العميق إزاء المجازر المروّعة التي لا تزال مستمرة حتى هذه اللحظة.

في المقابل، شنّ دونالد ترامب هجومًا لاذعًا على السياسات التي تنتهجها إدارة بايدن الحالية، والتي وصفها بأنها فاشلة في تحقيق السلام والاستقرار في المنطقة. وذهب ترامب إلى أبعد من ذلك، متهمًا هاريس بـ "كره إسرائيل"، وزعم أنه إذا وصلت إلى سدة الرئاسة، فإن "إسرائيل ستختفي من الوجود خلال عامين فقط".

الجدير بالذكر أن المرشحين قد أظهرا تباينًا ملحوظًا في وجهات نظرهما بشأن كيفية التعامل الأمثل مع العدوان المستمر على قطاع غزة وتداعياته المحتملة. ففي حين تهرب ترامب بشكل ملحوظ من تقديم إجابة مباشرة وواضحة، دعت هاريس بكل وضوح إلى الوقف الفوري لإطلاق النار والتمسك بحل الدولتين كأساس للسلام. وأشارت أيضًا إلى أن ترامب كان قد دعا سابقًا إلى وقف الحرب، وادّعى أنه لو كان رئيسًا لما اندلعت الحرب أصلًا، دون أن يقدم أي توضيح لكيفية تحقيق ذلك.

فيما يتعلق بموضوع حل الدولتين، يبدو من خلال تجربة ترامب خلال فترة رئاسته السابقة أنه يتبنى رؤية أقرب إلى أهداف بنيامين نتنياهو، والتي تتلخص في منح الفلسطينيين حكمًا ذاتيًا محدودًا تحت السيادة الإسرائيلية الكاملة.

حقّ الدفاع عن النّفس

إن التزام كلا المرشحين خلال المناظرة بأمن إسرائيل وحقها في الدفاع عن نفسها، على الرغم من كونه موقفًا تقليديًا في السياسة الأميركية، إلا أنه يحمل هذه المرة دلالات مختلفة من حيث الجوهر. فعلى مدى سبعة عقود مضت، اعتمدت واشنطن بشكل كبير على قوة إسرائيل الاستثنائية باعتبارها حليفًا استراتيجيًا موثوقًا به في تنفيذ المهام الصعبة والمعقدة في منطقة الشرق الأوسط. ولكن في الوقت الحالي، انكشفت نقاط ضعف إسرائيل الاستراتيجية بشكل واضح، وعلى رأسها عدم قدرتها على الدفاع عن نفسها.

هذا الضعف لم يتبدَ فقط أمام القوى الإقليمية، كما تجلى في الضربة الصاروخية الإيرانية المحدودة في ليلة 14 أبريل/نيسان الماضي، ردًا على قصف تل أبيب للقنصلية الإيرانية في دمشق. وكذلك بعد تهديد إيران وحزب الله بالرد على اغتيال إسماعيل هنية في طهران، والمسؤول العسكري لحزب الله فؤاد شُكر في بيروت. ففي كلتا الحالتين، سارعت واشنطن إلى حشد أساطيلها وحلفائها لحماية إسرائيل. إلا أن الضعف الأكبر تجلى بوضوح أمام صمود الشعب الفلسطيني الأعزل وهجوم كتائب القسام بأسلحة بدائية في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 "طوفان الأقصى". وعلى الفور، هرعت واشنطن برئيسها وجيشها إلى تقديم الحماية لإسرائيل وتخطيط وتنفيذ أشرس معركة في قطاع غزة.

هذا التحول التاريخي الهام في عمر دولة الاحتلال يشير بوضوح إلى أن إسرائيل، على الرغم من أهميتها الاستراتيجية بالنسبة لواشنطن، قد أصبحت أكثر تكلفة بالنسبة للولايات المتحدة الأميركية من أي وقت مضى. ومع استمرار عجزها عن الدفاع عن نفسها، فإنها تتحول إلى جرح غائر قد لا يندمل أبدًا في الكف الأميركي. وذلك في ظل سعي قوى اليمين المتطرف في إسرائيل بقيادة نتنياهو إلى إشعال صراع وجودي مستدام يعيد المشهد في منطقة الشرق الأوسط إلى العام 1948، مع تصاعد الاحتقان والغضب في نفوس شعوب المنطقة العربية ضد إسرائيل والولايات المتحدة، التي توفر لإسرائيل الغطاء السياسي والدعم العسكري السخي لقتل الفلسطينيين العزل والتهديد بتهجيرهم من قطاع غزة والضفة الغربية، وما يحمله ذلك من مخاطر جسيمة على الاستقرار الإقليمي، لا سيما مع مصر والأردن.

إسرائيل ستختفي خلال عامين

خلال المناظرة، أشار ترامب إلى إمكانية زوال إسرائيل خلال عامين فقط إذا فازت هاريس بالانتخابات الرئاسية. قد يبدو هذا التصريح ضربًا من الخيال، إلا أنه يعكس مدى الهشاشة التي يراها ترامب في قرارة نفسه لإسرائيل. وكأن ترامب أراد أن يقول إن بقاء إسرائيل مرهون بالكامل بدعم واشنطن المطلق، وأنها ستتلاشى إذا لم تحسن الإدارة القادمة حمايتها وتوفير الدعم اللازم لها.

وبقدر ما بدا هذا التصريح عفويًا، إلا أنه حمل في طياته تخوفًا عميقًا من حجم التحديات الهائلة التي تواجه إسرائيل في فلسطين والشرق الأوسط. فبعد معركة "طوفان الأقصى"، خسرت إسرائيل فرصة الاندماج في العالم العربي، واستبدلتها بعزلة متزايدة عن الشعوب العربية.

علاوة على ذلك، تحولت إسرائيل إلى نقطة حرجة بالنسبة للأنظمة العربية التي كانت قد أقامت علاقات دبلوماسية معها. فقد حاولت تلك الأنظمة جاهدة التخفي عن رادار الرأي العام العربي من خلال اتخاذ مواقف ظاهرية مؤيدة للفلسطينيين، والدعوة إلى وقف العدوان على غزة.

إن الحديث عن زوال إسرائيل على لسان مرشح رئاسي أميركي، وهو الحليف الأكبر لإسرائيل، يكشف عن مستوى النظرة الدونية لهذا الكيان، وكذلك حجم التحديات الاقتصادية والأمنية والاجتماعية التي تواجهه.

إن إصرار الكيان المحتل بقيادة بنيامين نتنياهو واليمين القومي المتطرف على تحويل المعركة إلى حرب وجودية ذات أبعاد دينية توراتية سيشجع الكثيرين في المنطقة، كيانات وأفرادًا، على المواجهة وأخذ زمام المبادرة والمشاركة الفعالة في حرب الاستنزاف التي يخوضها الفلسطينيون واللبنانيون واليمنيون والعراقيون ببسالة.

وقد تجسد ذلك بالفعل في فعل الأردني ماهر الجازي الذي قتل ثلاثة من حرس الحدود الإسرائيلي على جسر الملك حسين مع فلسطين. وقد احتفت قبيلة الحويطات في الأردن باستشهاده، مستحضرة تاريخها النضالي العريق، وقد يكون هذا النموذج مرشحًا للتكرار بأشكال مختلفة في المستقبل القريب.

لقد استنفدت إسرائيل جميع مكوناتها المادية إلى أقصى حد، واستحضرت سيف الدين والتوراة في مواجهة الفلسطينيين والعرب والمسلمين، وهذا خطأ فادح ستدفع ثمنه باهظًا. لأنه يكرس البعد الديني الإسلامي في الصراع، وهو العامل الذي يخشاه الغرب بشدة، وعمل على تغييبه لعقود طويلة، لما له من تأثير ساحر وعميق على الشباب والهوية الحضارية للعرب والمسلمين عبر التاريخ. ولا سيما أن أولئك الشباب يرون بوضوح مستوى الاحتكار والاحتقار الذي يمارسه الغرب بحق شعوب المنطقة وهويتها ومقدساتها، وذلك لحساب الصهاينة المحتلين لفلسطين والقدس والأقصى.

ولن يكون التاريخ وحده ملهمًا لهؤلاء الشباب، بل سيجدون في غزة – محضن حركة حماس والمقاومة الفلسطينية، بما تتسم به من تدين إسلامي عميق – نموذجًا أذهل العالم بصموده الأسطوري، وجعله يتساءل في حيرة عن سر القوة الخفية التي منحت هؤلاء القدرة على الإبداع ومواجهة أعتى قوة مادية عرفها العالم الحديث.

غزة، بالإضافة إلى أنها كاشفة أخلاقيًا وسياسيًا للقريب والبعيد، قد تحولت إلى أيقونة وطنية وقومية وإسلامية ذات بعد إنساني وقيمي رفيع، وذلك في مواجهة حالة التوحش التي تجسدها إسرائيل. وهذا سيجعل المشهد أكثر وضوحًا للأجيال الباحثة عن الذات والمستقبل، وسيزيد العبء على إسرائيل، كما سيبعث في الشعوب صحوة قوية لا تأتي إلا من بعد غفلة طالت مدتها.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة